NNA 10/25/2025

NNA - إفتتاح الموسم الموسيقي للأوركسترا الفلهارمونية احتفاءً بعودة المبدعين اللبنانيين إلى وطنهم مع المايسترو دييغو نصر

وطنية - شهدت بيروت ليلة موسيقية استثنائية وعابقة بالديبلوماسية الثقافية والحنين والعودة إلى الجذور، حيث احتضنت كنيسة الآباء اليسوعيين في القديس يوسف – مونو، الأشرفية، حفل الافتتاح الكبير للموسم الموسيقي الجديد للأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية. رعت الافتتاح مناسبة ذات أهمية خاصة حملت عنوان "الموسيقى توحد، الثقافات تحتفل"، لتكون احتفاء بعودة اللبنانيين في الخارج إلى الوطن من خلال اختيار قائد الأوركسترا دييغو نصر الإورغواياني ذي الجذور اللبنانية، وذلك استكمالا للمسار الذي انتهجته رئيسة الكونسرفتوار بالإضاءة على المبدعين اللبنانيين في الاغتراب واستقدامهم تباعا إلى لبنان ليقدموا إبداعهم عبر حفلات مخصصة لهم. وكذلك للاحتفال رسميا بمناسبة ثمانين عاما من العلاقات الدبلوماسية المتميزة بين لبنان وجمهورية الأورغواي.

جاء هذا الحدث الموسيقي البارز بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى، المؤلفة الموسيقية الدكتورة هبة القواس، وذلك بالتعاون مع سفارة الأوروغواي في لبنان، مؤكدا على الدور الحيوي للثقافة والفنون كجسور للتواصل والتفاهم المتبادل بين الأمم، مسلطا الضوء على الروابط التاريخية والشخصية التي تجمع البلدين، لا سيما مع الوجود الكبير للجالية اللبنانية في الأورغواي. فشكل الحفل بيانا واضحا على أن الفن هو اللغة الأصدق لترسيخ أواصر الصداقة بين الشعوب.

قبل انطلاق الحفل مع الأوركسترا والبرنامج الموسيقي، كانت كلمة افتتاحية وترحيبية للقواس أطلقت فيها الموسم الموسيقي للأوركسترا بكلمة جمعت فيها الكلام عن الموسيقى والدبلوماسية الثقافية بين الشعوب واحتضان الوطن لمبدعيه بعودة من خلال الموسيقى التي تحيي الحنين والروابط الإنسانية العميقة، وجاء في كلمتها: 
"ثمانون عاما من العلاقة مع الأورغواي ليست في جوهرها اتفاقيات، بل هي إشارة إلى أن البعيد أقرب مما نظن، وأن الهوية لا تختصر بالإقامة، بل تكتب في حركة عبور، في هجرة، في لقاء على أرض ثالثة. ومن هناك، من قلب المسافة، يأتينا الليلة مايسترو دييغو نصر. ليس كضيف، بل كعودة مؤجلة. للمرة الأولى، تقوده خطواته إلى أرض أجداده. يقف ليقود الأوركسترا، لكنه في العمق يقود المسافة نفسها بين الوطن والانتشار، بين الجذر والسماء. عصاه ليست إشارة إيقاعية فحسب، بل هي استعادة لوتر انقطع، وإعادة وصله بنغمة لا تنكسر.
ولا يمكن أن يمر هذا اللقاء دون أن نذكر السفير كارلوس جيوتو، الذي مضى قبل أشهر إلى ستوكهولم، تاركا في بيروت بذرة هذا المساء. لم يغادر في الحقيقة، لأن ما يزرع في المخيلة يبقى أكثر حضورا من الجسد".

أضافت :"لقد أطلقنا منذ أشهر نداء للموسيقيين اللبنانيين وأصحاب الجذور اللبنانية في العالم: لا تعودوا كلاجئين ولا كمنفيين، بل كأصوات. عودوا لتقيموا أو لتتعاونوا أو لتتركوا جملة موسيقية واحدة تتردد هنا. الوطن ليس بيتا يسكن، بل أثرا يترك. وها هو دييغو الليلة يجيب النداء. 

إن هذا الموسم لن يقتصر على سلسلة حفلات مميزة فحسب، بل سيحمل معه إعلانات كبرى تشكل محطات مفصلية في مسيرة المعهد الوطني العالي للموسيقى. سنكشف عن أقسام جديدة تفتح للمرة الأولى، وعن مسابقات دولية تضع طاقاتنا الشابة في قلب التنافس والإبداع، وعن مناهج أكاديمية متجددة تعيد صياغة تعليم الموسيقى وفق أعلى المعايير، لنخطو معا نحو الاعتماد الأكاديمي الذي يكرس مكانة معهدنا في مصاف المؤسسات العالمية. كما سنقدم برامج خاصة لعشاق الموسيقى، حيث لا يبقى الجمهور متلقيا فقط، بل شريكا في المعرفة والفن. إننا لا نكتفي بالممكن ولا بالمتوقع، بل نضع أمامنا الأفق الأوسع، لأن لبنان ومعه منطقتنا يستحقان أن نذهب أبعد من المتصور، وأن نصوغ مستقبلا موسيقيا يعانق السماء في طموحه"
وقالت :"برنامج هذا المساء هو مسار فلسفي مرسوم بالنغم: يبدأ من حلم يعاد تأويله في “لحظات في زومنوس” لهبة القواس؛ يواجه صرامة القدر في الخامسة لبيتهوفن؛ ينفتح على الجسد كذاكرة راقصة في رقصات أميركا اللاتينية: هوابانغو، دانثون، ولا كومبارسيتا؛
ثم يبلغ ذروة الاحتفال الإسباني في إنترمتسو خيمينيز. كل مقطوعة هنا ليست قطعة موسيقية بل طبقة من المعنى. وكل معنى هو جسر: بين الشرق والغرب، بين لبنان والانتشار، بين الماضي الذي يثقل والحاضر الذي يفتح، بين الصمت الذي يوجع والصوت الذي يخلد. وختمت:" هذا المساء لا يبرر وجود لبنان، بل يثبته. لا يطلب له اعترافا، بل يضعه في صميم اعتراف العالم بنفسه. فحين تعزف الفيلهارمونية اللبنانية، لا تعلن موسمها فقط، بل تعلن أن لبنان لا يختزل بخبر ولا بأزمة، بل يتجسد في سيمفونية".

ثم تلتها كلمة للقائم بالأعمال في سفارة الأورغواي في لبنان خورخي دوتا، قال فيها:
"شرف كبير ان أكون معكم في هذا الافتتاح للموسم الموسيقي للأوركسترا الفلهارمونية. أريد ان أعبر عن امتناني الكبير للرئيسة الدكتورة هبة القواس على جهودها الكبيرة في إقامة هذا الحفل. نحن فخورون بالترحيب بالمايسترو دييغو نصر الأورغواياني من جذور لبنانية الذي يمثل الاتحاد والعلاقات الوطيدة بين لبنان والأورغواي. هذا الحدث اليوم يمثل جزءا من الاحتفالية ب 80 عاما من العلاقات الدبلوماسية المتميزة بين لبنان وجمهورية الأورغواي، ويحتفل أيضا بقوة الموسيقى التي تجمع شعبينا وجميع الشعوب. شكرا لوحضوركم معنا".

تألقت الأوركسترا في هذه الأمسية تحت قيادة المايسترو اللامع دييغو نصر، وهو شخصية فنية تحمل في جذورها عمق العلاقة بين البلدين. فالمايسترو نصر هو أوروغوياني الأصل مع جذور لبنانية عريقة، ما يجعله رمزا حيا لهذا الاحتفاء بعودة اللبنانيين إلى جذورهم وبالصداقة الممتدة لثمانية عقود بين البلدين. ولاسيما أن نصر يتمتع بمسيرة مهنية غنية تجعله من القامات المرموقة دوليا. اشتهر بقدرته الفائقة على قراءة التراكيب الموسيقية المعقدة واستخلاص أعمق المشاعر من العازفين. يمتلك نصر حساسية فنية عالية مكنته من التواصل ببراعة مع عازفي الأوركسترا اللبنانية، موحدا طاقاتهم لإخراج أداء متجانس ومؤثر. وجود فنان بهذا الثقل، يمثل الجسر بين الثقافتين، منح الحفل بعدا عاطفيا ودبلوماسيا استثنائيا، ولا سيما عبر تأثر نصر بقصته الحميمة مع بلده الأم لبنان الذي استكشف علاقته العميقة به من خلال هذه العودة اليوم بعدما تركه أجداده منذ أجيال وانقطعت الروابط معه.

قدمت الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، بعزفها المتقن، برنامجا موسيقيا زاخرا بالتنوع الموسيقي، ضم مؤلفات لكبار العمالقة في عالم الموسيقى الكلاسيكية والحديثة. اشتمل البرنامج على أعمال لكل من:
القواس (Al Kawas)رودريغيز (Rodriguez)مونكايو (Moncayo)ماركيز (Márquez)غيمينيز (Giménez)وبيتهوفن (Beethoven).
تميز الأداء تحت قيادة المايسترو نصر الماهرة بالتناغم والدقة في الانتقال بين المدارس الموسيقية المختلفة في رحلة بين العوالم، وعكس الاحتفالية بلقاء الثقافات، حيث تم التنقل بسلاسة بين العمالقة الكلاسيكيين ورواد الموسيقى اللاتينية والبصمة اللبنانية المشرقية العالمية.
في الأعمال اللبنانية والعربية (هبة القواس Hiba Al Kawas) Peusis No 2 (Ouverture) “ Moments in Somnus” التي سميت في الأصل "لحظات في كراكوف"، ثم أصبحت العمل الثاني في سلسلتها الأوركسترالية "بلوزيس"، والتي تستكشف الصوت كرحلة من التدفق والتحول. حمل العازفون العنوان إلى "سمنس"، إله النوم الروماني، في آلاتهم فتجلت المقطوعة كحلم: تتنقل بين مقاطع مستوحاة من تقاليد الحداثة البولندية إلى لحظات أداجيو غنائية من الشغف والكآبة، وإلى ألوان شرقية -عربية جريئة تعكس تراث المؤلفة. وهذا ما جسده أداء الأوركسترا حيث توقد إيقاع النبض بالإيقاع المشرقي، بينما أعلنت خطوط الأبواق عن حضور الزمن نفسه بتوهج وشموخ. تجلت "لحظات في سمنس" بقيادة نصر المحترفة، كحلم منعكس وتأمل كوني، حيث أصبح التناقض جوهر الدراما. وتمكنت الأوركسترا من استشراف الأبعاد الروحية والكونية والدرامية للمقطوعة بأداء جاور تقديمها من فرق أوركسترالية رائدة في جميع أنحاء العالم، ولاسيما بعد وصولها إلى ذروتها عندما اختارتها أوركسترا رويال كونسرتباو لتمثيل المؤلفين الأحياء، في برنامج حضرته جلالة الملكة ماكسيما ملكة هولندا. 
وإلى عمالقة الكلاسيكيات الأوروبية مع لودفيج فان بيتهوفن (L.V. Beethoven) - السمفونية الخامسة في سلم دو الصغير: كانت "سمفونية القدر" حجر الزاوية الكلاسيكي في الحفل. ففي هذا العمل الأيقوني، أظهرت الأوركسترا براعة في الالتزام بالشكل الكلاسيكي والقوة التعبيرية التي تتطلبها الافتتاحية الشهيرة للمقطوعة، حيث نجح العازفون، لا سيما في قسمي الأوتار والآلات النشبية، في ترجمة الصراع والانتصار الذي يمثله بيتهوفن، مما أثبت قدرتهم على التعامل مع ذخائر الموسيقى الأوروبية بمنتهى الدقة والانضباط. وبرزت المهارة التقنية العالية والالتزام الصارم بالشكل الكلاسيكي، مما أثبت قدرة الأوركسترا على التكيف مع مختلف الأساليب الموسيقية العالمية.
كذلك تماهت الأوركسترا بعصا نصر السحرية مع روائع أميركا اللاتينية وإسبانيا
خوسيه بابلو مونكايو (José Pablo Moncayo) - هوابانغو: شكلت هذه المقطوعة المكسيكية فرصة للعازفين لإظهار حيويتهم الإيقاعية وشغفهم اللوني. ونجحت الأوركسترا في إبراز الروح الاحتفالية والدفء الإيقاعي للموسيقى اللاتينية، مجسدين اللقاء بالثقافة اللاتينية عبر هذا العمل المكسيكي الرائع.
أرتورو ماركيز (Arturo Márquez) - دانزون رقم 2: برزت في هذا العمل المهارة الفردية للعازفين، خاصة عازف الكلارينيت المنفرد. وأظهرت الأوركسترا قدرة فائقة على خلق حوار آسر بين أقسامها المختلفة، مبرزة التناغم بين الإيقاعات المعقدة التي تطلبتها رقصة "الدانزون" الآسرة.
ماتوس رودريغيز (Matos Rodríguez) - لا كومبارسيتا: تمكنت الأوركسترا من صبغ هذه المقطوعة الكلاسيكية في فن التانجو بالدراما والشغف المطلوبين. وركزت الأوركسترا على إبراز الإيقاع المميز واللغة الحزينة والمتهادية للتانجو، مما نقل الجمهور إلى أصل المايسترو نصر وإلى عمق الروابط الثقافية بين الأوروغواي والبحر الأبيض المتوسط.
ومع جيرونيمو خيمينيز (Geronimo Giménez) - إنترميتزو من "زفاف لويس ألونسو": أطلقت الأوركسترا العنان للإيقاعات الكاسحة والألحان المكتسحة، مستعرضة المهارة الإسبانية العالية في العزف، ما أضاف تنوعا لونيا آسرا وروحا فلكلورية نابضة إلى الأمسية.

وفي خلال الأمسية، وبتأثر كبير تحدث المايسترو نصر عن تجربة العودة إلى لبنان بعد اغتراب وانقطاع لزمن طويل بدأ مع جده. ثم اعتلت المنصة مجددا الرئيسة القواس لتزيد على ما بدأت به في لحظات إنسانية، محيية المايسترو ومستعيدة مسار الاغتراب، ولتعلن عن أن والد المايسترو نصر حاضر في الاحتفال في الزيارة الأولى إلى لبنان طيلة حياته بعدما خسر والده في عمر الرابعة، وهو اليوم يستكشف جذوره اللبنانية بعد سنوات طويلة من الاغتراب بما يمثل له لبنان حضور والده الذي فقده. ثم استدعت القواس السفيرة السابقة في اليونيسكو عقيلة رئيس الحكومة السيدة سحر بعاصيري سلام التي عملت على بناء الجسور الثقافية، وقالت إن حضورها في الحفل هو المظلة لعودة الدياسبورا إلى الوطن الأم لكي يجدوا أصواتهم مجددا في أحضان الوطن. وفي لحظات مؤثرة استدعت القواس الوالد نصر على المسرح لتخبر قصة ذهابه إلى الكورة لكي يبحث عن أصوله وعائلته ويجد قبور أجداده، والتحم بعائلته مجددا للمرة الأولى في حياته.
وقالت سلام متوجهة إلى المايسترو وواله بالقول: "نحن سعداء جدا بوجودكم بيننا، وبأنكم وجدت جذوركم اللبنانية. نتمنى لكم إقامة ممتعة في ربوع بلدكم، كما نأمل أن يعود كل اللبنانيين في الخارج لاكتشاف جذورهم وأصولهم وجمال بلدهم". وشكرت القواس على ما تقوم به من مجهود كبير في إطار استعادة اللبنانيين المبدعين من الخارج. ثم كانت كلمة للمايسترو دعا فيها إلى سماع المقطوعة التقليدية الأورغوانية "لا كومبارسيتا".
في ظل هذه الأجواء الإنسانية المؤثرة، كان أداء الأوركسترا شاهدا على المستوى المتقدم الذي وصل إليه الفن الموسيقي في لبنان، مؤكدا أن الموسيقى هي القوة القادرة على دمج الأساليب والتعبير عن أعمق معاني الصداقة والتبادل الثقافي بين الأمم. وفي الختام، استطاعت هذه الاحتفالية أن تؤكد على أن الدبلوماسية لا تقتصر على القاعات الرسمية، بل تجد أصدق تعبيراتها في لغة الموسيقى الكونية، التي احتفلت ب 80 عاما من المودة والاحترام المتبادل بين لبنان والأوروغواي، واستطاعت إحياء الحنين المتمثل في عودة اللبنانيين إلى جذورهم وأرضهم مهما تباعدت المسافات وطال الزمن.