TAP 06/30/2025

TAP - الغواصات الغارقة في عمق المياه البحرية التونسية تطفو مجدّدا على صفحات كتاب صدر حديثا لمحمد مهدي طباخ وكمال القروي

تونس 29 جوان 2025 (وات) - تعدّ تونس بموقعها الجغرافي الاستراتيجي والممتد على أكثر من ألفي كيلومتر من السواحل نقطة التقاء بحرية واستراتيجية محورية بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط. وخلف جمال شواطئها ومياهها الزرقاء، تختبئ آثار صامتة تروي قصصا دامية من تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية تتمثّل في حطام غواصات غارقة وأصبحت شاهدا على صراعات بحرية طاحنة وذاكرة جماعية تكاد تكون منسية.

 

في كتابهما المشترك الصادر في جوان 2025 باللغة الفرنسية في 176 صفحة تحت عنوان " Les épaves de sous-marins en Tunisie : un patrimoine subaquatique oublié" (حطام الغواصات في تونس: تراث مغمور منسي)، يقدّم الباحثان محمد مهدي طبّاخ وكمال القروي مادة علمية وثقافية متفرّدة من حيث الشكل والمضمون والموضوع المطروح، يستعرضان من خلالها أهمية هذه المواقع المغمورة في تشكيل جزء من الهوية التاريخية والبحرية للبلاد التونسية. وتولى تقديم هذا الكتاب المخرج السينمائي الفرنسي "روني هوزي" وهو أيضا منتج أفلام تحت الماء وغواص محترف.

 

ينطلق المؤلفان من دراسة قناة صقلية، هذا الممر البحري الحاسم الذي فصل ووصل بين شمال إفريقيا وجنوب أوروبا، ليؤكدا أن هذه القناة أو هذا المضيق البحري كان مسرحا لرهانات عسكرية دولية بدأت من العصور القديمة مع القرطاجيين والرومان ووصلت إلى ذروتها إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية.

 

ويسلط الكتاب الضوء على العشرات من الغواصات التي رست في أعماق المياه البحرية التونسية بعد أن غمرتها المعارك أو جرى إغراقها عمدا. ويوثق الكاتبان هذه الغواصات وفق منهج علمي تاريخي، يعتمد على البحث الأرشيفي والاستكشاف الميداني والتوثيق البصري ليرسما بذلك خريطة دقيقة لهذا التراث المغمور في المياه. وقد تنوعت هذه الغواصات بين بريطانية وألمانية وإيطالية وفرنسية، ولكل منها حكاية خاصة ترتبط بمراحل حاسمة من التاريخ العسكري في المنطقة.

 

ولا يتوقف الكتاب عند البعد التاريخي والعسكري، وإنما يتجاوزه نحو رؤى مستقبلية تُعلي من قيمة هذه المواقع باعتبارها تراثا ثقافيا وإنسانيا يستحق الحماية والاستثمار. فهذا الحطام كما صوّره الكاتبان، استعادت فيه الطبيعة سيادتها بتحوّلها إلى ملاذات للبيئة البحرية ومثل فرصة لإحياء الذاكرة الجماعية وتنمية السياحة المستدامة لاسيما السياحة الغوص التي باتت رائجة عالميا.

 

يركز المؤلفان في الفصول الأخيرة على التحديات التي تهدد هذا التراث مثل الإهمال وعدم وضوح الرؤية القانونية والاعتداءات البشرية على هذا التراث الثمين. ويدعوان إلى تفعيل آليات حماية وطنية ودولية تضمن الحفاظ عليه. كما يقترحان آفاقا للتعاون الأكاديمي والثقافي بما في ذلك إنتاج وثائقيات وإنشاء مراكز تفسيريّة ودمج هذا التراث في المناهج التعليمية.

 

وجاء هذا المبحث في خمسة محاور رئيسية تتوزع بين التاريخ والجغرافيا العسكرية والبحوث الأركيولوجية وقضايا التراث المغمور في المياه.

ويستهلّ المؤلفان الكتاب بتحليل الأهمية الاستراتيجية لقناة صقلية عبر العصور، بدءا من الحقبة القديمة التي شهدت صراعات بحرية بين قرطاج وروما، وصولا إلى القرن العشرين خلال الحربين العالميتين. ويلقي هذا الجزء الضوء على أهمية هذه المنطقة كحلقة وصل بين ضفتي المتوسط وممرّ استراتيجي بالغ الأهمية والخطورة في آن خاصة بين بنزرت وميناء مدينة ميسينا الإيطالية.

يسجّل المحور الثاني من الكتاب الجرد الفني والتاريخي للغواصات التي تم انتشالها بعد غرقها في المياه التونسية. ويشرح السياقات التي أدت إلى غرقها سواء بفعل القصف أو الإغراق المتعمّد ثم يعرض العمليات التي أجريت لانتشالها مع توثيق دقيق للأحداث العسكرية المصاحبة.

ويتناول الكاتبان في المحور الثالث الحطام الذي لا يزال مستقرا في قاع البحر. ويقدّم تصنيفا دقيقا لغواصات بحسب جنسياتها وهي فرنسية وبريطانية وإيطالية وألمانية. ويعتمد هذا المحور على مقاربة تجمع بين الشهادات الأرشيفية والصور تحت المائية والتوثيق الجغرافي لتحديد مواقع الحطام وظروف غرقه.

ويقدّم الكتاب في المحور الرابع قراءة تحليلية واستشرافية من خلال مقارنة حجم الخسائر البحرية في تونس بدول الجوار مثل الجزائر وليبيا. كما يعيد طرح الأسئلة حول المكانة الجيوستراتيجية للمتوسط الجنوبي ودور الغواصات في التوازنات البحرية خلال القرن العشرين مع دعوة لإعادة إدماج هذا التراث في السياسات الثقافية والبيئية والتعليمية.

ويختتم الكتاب بتناول علمي لقضية التراث المغمور في تونس. ويعرض مراحل البحث والاستكشاف، بدءا من الأرشفة وصولا إلى التصوير والتحديد ثلاثي الأبعاد. كما يناقش إمكانيات تثمين هذا الإرث في السياحة البيئية والتعليم والبحوث ويطرح التحديات القائمة سواء على مستوى القانون أو التمويل أو صعوبة الوصول أو كذلك أخلاقيات التعامل مع مواقع تحمل آثارا بشرية مأسوية.

 

ويعتبر هذا الكتاب القيّم من الناحية البحثية والمعرفية، دعوة مفتوحة لإعادة اكتشاف زاوية خفية من تاريخ تونس والمجال المتوسطي وتقدير الغواصات الغارقة كجواهر مغمورة تعكس تشابك الماضي بالحاضر وتشهد على مآلات الصراع في منطقة ما تزال تحتفظ بمكانتها الاستراتيجية حتى اليوم.

 

ومحمد مهدي الطبّاخ هو مدرّب غوص معتمد في مركز "موجة" برأس الزبيب ببنزرت (تونس)، وهو حاصل على شهادات متعددة من وكالات دولية وله مساهمات عديدة في الصحافة المحلية والفرنكوفونية. كما نشر سنة 2024 كتابا بعنوان "تأثير دنينغ-كروجر في الغوص: بين الأسطورة والواقع" تجمع خلفيته بين علوم الإعلامية وعلوم التربية.

 

أما كمال القروي فهو أستاذ محاضر بالمعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا متخصص في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وحائز على دكتوراه من كندا. كان رئيسا لجمعية رياضة الغوص والبيئة ببنزرت، وهو يعد من أبرز المدافعين عن حماية التراث البحري والتنوع البيولوجي. له خبرة تدريسية وبحثية في عدة بلدان إلى جانب تونس منها كندا والإمارات العربية المتحدة.

 

لمح